فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الأولى:
المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله، واختلفوا في المراد من قوله: {كتب} أما القاضي فذكر ثلاثة أوجه على وفق قول المعتزلة أحدها: جعل في قلوبهم علامة تعرف بها الملائكة ما هم عليه من الإخلاص وثانيها: المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق وثالثها: قيل في: {كتب} قضى أن قلوبهم بهذا الوصف، واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة نسلمها للقاضي ونفرع عليها صحة قولنا، فإن الذي قضى الله به أخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ، لو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذبًا وهذا محال، والمؤدي إلى المحال محال، وقال أبو علي الفارسي معناه: جمع، والكتيبة: الجمع من الجيش، والتقدير أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان، أي استكملوا فلم يكونوا ممن يقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] ومتى كانوا كذلك امتنع أن يحصل في قلوبهم مودة الكفار، وقال جمهور أصحابنا: {كتَب} معناه أثبت وخلق، وذلك لأن الإيمان لا يمكن كتبه، فلابد من حمله على الإيجاد والتكوين.
المسألة الثانية:
روى المفضل عن عاصم: {كتب} على فعل مالم يسم فاعله، والباقون: {كتب} على إسناد الفعل إلى الفاعل والنعمة الثانية: قوله: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} وفيه قولان: الأول: قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحًا لأن بها يحيا أمرهم والثاني: قال السدي: الضمير في قوله: {مِنْهُ} عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] النعمة الثالثة: {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} وهو إشارة إلى نعمة الجنة النعمة الرابعة: قوله تعالى: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وهي نعمة الرضوان، وهي أعظم النعم وأجل المراتب، ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال: {أولئك حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} وهو في مقابلة قوله فيهم: {أولئك حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} [المجادلة: 19].
واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة وبالجملة فالآية زجر عن التودد إلى الكفار والفساق.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا} إلى آخره» والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال القرطبي:

{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ} أي قضى الله ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ؛ عن قتادة.
الفراء: كتب بمعنى قال.
{أَنَاْ} توكيد {ورسلي} من بُعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بُعث منهم بالحجة فإنه غالب بالحجة.
قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجَوْنا أن يظهرنا الله على فارس والروم؛ فقال عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددًا، وأشد بطشًا من أن تظنوا فيهم ذلك؛ فنزلت: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي}.
نظيره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ} أي يحبون ويوالون {مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} تقدّم.
{وَلَوْ كانوا آبَاءَهُمْ} قال السدي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، جلس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فشرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ماء؛ فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلةً أسقيها أبي؛ لعل الله يُطهّر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها؛ فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبيّ صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهّر قلبك بها.
فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها.
فغضب وجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتحسن إليه».
وقال ابن جريج: حُدِّثت أن أبا قُحافة سب النبيّ صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر ابنه صكةً فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلَك له، فقال: «أو فعلته، لا تعد إليه» فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف مني قريبًا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح؛ قتل أباه عبد الله ابن الجراح يوم أُحد وقيل: يوم بدر.
وكان الجراح يتصدّى لأبي عبيدة وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله؛ فأنزل الله حين قتل أباه: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} الآية.
قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. ولقد سألت رجالًا من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام.
{أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} يعني أبا بكر دعى ابنه عبد الله إلى البراز يوم بدر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَتِّعْنَا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر» {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر.
{أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليًّا وحمزة قتلا عُتبة وشيبة والوليد يوم بدر.
وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح؛ على ما يأتي بيانه أوّل سورة (الممتحنة) إن شاء الله تعالى.
بيّن أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.
الثانية: استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القَدَرية وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالس القَدَرية وعادِهم في الله؛ لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}.
قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان.
وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في مَن كان يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللّهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} إلى قوله: {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان}» أي خلق في قلوبهم التصديق؛ يعني من لم يوال من حاد الله.
وقيل: كتب أثبت؛ قاله الربيع بن أنس.
وقيل: جعل؛ كقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] أي اجعلنا.
وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وقيل: (كَتَبَ) أي جمع، ومنه الكَتيبة؛ أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وقراءة العامة بفتح الكاف من {كَتَبَ} ونصب النون من {الإيمان} بمعنى كَتَبَ الله وهو الأجود؛ لقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} وقرأ أبوالعالية وزِرّ بن حُبيش والمفضل عن عاصم {كُتِبَ} على ما لم يسمّ فاعله {الإيمَانُ} برفع النون.
وقرأ زِرّ بن حُبيش {وَعَشِيرَاتِهِمْ} بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم.
وقيل: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي على قلوبهم، كما في قوله: {فِي جُذُوعِ النخل} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان.
{وَأَيَّدَهُمْ} قوّاهم ونصرهم بروح منه؛ قال الحسن: وبنصر منه.
وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه.
وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى.
وقيل: برحمة من الله.
وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام.
{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ} أي قبل أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرحوا بما أعطاهم {أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي! مَن حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: (يا داود الغاضّةُ أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم؛ أولئك حزبي وحول عرشي). اهـ.

.قال الألوسي:

{كتب الله}
استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال: وأيًا مّا كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه: {لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبًا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح، وقوم صالح، وقوم لوط، وغيرهم، والحرب بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالًا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصًا لله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدًا كذلك إلا منصورًا غالبًا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين.
والطائف.
وخيبر وما حولها قالوا: نرجوا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ: أتظنون الروم.
وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله أنهم لأكثر عددًا وأشد بطشًا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} {إِنَّ الله قَوِىٌّ} على نصر رسله {عَزِيزٌ} لا يغلب على مراده عز وجل.
وقرأ نافع وابن عامر {وَرُسُلِى} بفتح الياء.
{لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، و{تَجِدُ} إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى: {يُوَادُّونَ} إلخ مفعوله الثاني، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل: صفة أخرى له أي قومًا جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في (الكشاف) من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قومًا مؤمنين يوادّون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا على ما في (الكشف) أنه من فرض غير الواقع واقعًا محسوسًا حيث نفى الوجدان على الصفة، وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو فالتصوير في جعل ما لا يمتنع ممتنعًا، وقيل: المراد لا تجد قومًا كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم، والمضارع قيل: لحكاية الحال الماضية، و{مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} ظاهر في الكافر؛ وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق، والأخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان: يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان، وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعًا: